قافلــــــــــة الجمـــــــــــــــــــــال!
بقلم: أحمد رجب
*********************************
مازلت أذكر ياسيدي ذلك اليوم الذي دق فيه جرس التليفون في بيتي لأجد صوتا
يقول: باسفيك سرفيس؟ وحسب تعليمات زوجتي فاطمة أجبت المتكلم
بالإنجليزية: جود أفتر نون.. باسفيك سرفيس في خدمتك, وحسب تعليماتها
ايضا حركت قرص التليفون محدثا تكتكة وكأنني سكرتير أوصل المتحدث برئيس
العمل, والتقطت فاطمة السماعة ورطنت باللكنة الأمريكية ثم ما لبثت أن
قالت: طبعا ياسيدي نحن نتكلم العربية باسفيك سرفيس في خدمتك.
كان ذلك هو اليوم الاول لنشاط باسفيك سرفيس, ومنذ ذلك اليوم وبيتي اسمه
باسفيك سرفيس, وبهذا الباسفيك سرفيس حققت فاطمة أمنيتها في إنشاء مكتب
يؤدي للعلماء خدمات غير تقليدية, وقد تعلقت بهذه الامنية ونحن في رحلة
بأمريكا, إذ قرأت عن إعلان زواج نشر بإحدي الصحف وجاء فيه شاب وسيم
مليونير يرغب في الزواج من فتاة يكون لها نفس اوصاف بطلة قصة الخريف لا
يأتي غدا.
في خلال ساعات نفدت كل نسخ القصة من السوق وحقق مكتب باسفيك سرفيس صاحب
الاعلان ربحا كبيرا له وللمؤلف, فالافكار الجديدة ـ كما تقول فاطمة:
هي أقرب طريق الي النجاح, ومن هنا نقلت اسم المكتب الامريكي باسفيك
سرفيس الي مشروعها الجديد, وتم نشر الإعلان في الصحف عن بداية نشاط
باسفيك سرفيس.
ورغم أن فاطمة فسرت سبب تسمية المكتب باسفيك بأن الاسم يعطي عظمة وفخامة
وثقة فإنني وجدت هذا التفسير ضعيفا ومتهافتا فاعترضت بشدة علي هذاالاسم
السخيف, ولكن فاطمة لم تعلم بذلك, إذ جاهرت باعتراضي أمام صديق مخلص
لا ينقل الكلام, كذلك أخفيت عن فاطمة استيائي من رفع سماعة التليفون
والرد علي العملاء بالانجليزية, ولا أذكر ماذا قالت فاطمة تفسيرا
لذلك, ولكني أيدتها تماما في وجوب الرد علي التليفون بالانجليزية.
وميدان الاعمال ليس جديدا علي فاطمة, فقد بدأت حياتها العملية مصممة
أزياء, ثم خبيرة ديكور, ثم تنظيم رحلات سياحية, ولما رأت ان ماليتي
قد ارهقت بسبب سدادي للديون التي تراكمت عليها قالت: إنها قررت ان تعتمد
علي نفسها وتتجر في الكلاب المدللة,ووتحول بدروم الفيلا الي مستشفي
لتوليد وتربية الكلاب.
ورغم الدخل الضئيل لهذه التجارة الجديدة, فإن فاطمة كانت راضية وسعيدة
جدا, وربما لان حمل الكلاب الصغيرة وتدليلها وإرضاعها أحيانا بالبيبرون
كان يشبع إحساسها المتعطش إلي الأمومة وكنت اقضي معها في البدروم وقتا
طويلا لرعاية الأولاد, وهي قد رأت أنني قد استفدت من صحبة الكلاب خصالا
طيبة, فأصبحت ذكيا, ووفيا أكثر, واسرع اليها لاهثا عندما تنادي
اسمي.
كان افضل عملاء فاطمة هي مدام صابونجي التي تقتني اربعة وثلاثين كلبا.
وقد ابدت هذه السيدة رغبتها في اقتناء كلب تشاوتشاو من السلالات
الصينية, وهو الكلب الوحيد بين فصائل الكلاب الذي ينفرد بسواد اللسان,
وعرضت مدام صابونجي الفي جنيه ثمنا لهذا الكلب الأمر الذي حفز فاطمة الي
ان تعجل باتصالاتها للحصول علي هذا الكلب. وعرفت ان هناك سمسار كلاب
اسمه الدكتور محروس, وأعطوها رقم تليفون مقهي يتردد عليه وتبين انه حلاق
كلاب سابق, وبعد اسبوع صدق وعد الرجل وجاء بالتشاوتشاو وقبض مائتي جنيه
وكسبت فاطمة الفا وثمانمائة جنيه!
لقد طارت مدام صابونجي فرحا, فقد كان الكلب جميلا حقا له طوق شعر كثيف
حول الرقبة, والشعر نفسه ذو ألوان متغيرة مع الضوء. وتشاوتشاو
أصيل.. غير ان فرحة مدام صابونجي لم تدم طويلا, فقد بدأ الكلب يشيب.
هل تشيب الكلاب ؟ اسرعت به المدام الي الطبيب, فاكتشف ان الكلب من نوع
اللولو الابيض وليس تشاوتشاو, تم بإتقان قص شعره وصبغه بالالوان
المتغيرة كما تم طلاء لسانه بحبر بلوبلاك ؟
كانت الصدمة قاسية فلزمت فاطمة الفراش. كانت تبكي وتعتريها نوبات عصبية
تتهمني فيها ـ كما يحدث في اعقاب فشل كل مشروع ـ بأنني السبب, وأن طول
عمري أريد أن أثبت انها سيدة أعمال فاشلة: وفي كل مرة كنت احتضن فاطمة
واهديء من روعها وكانت تهدأ بذلك, فهي تعرف ان كل اتهاماتها ظالمة,
وهي تعرف ايضا ان حبي لها قد فاق كل تصور. وهل أتجاهل تضحيتها من أجلي ؟
هل أنسي بداية حياتنا وكيف اثبتت كل الفحوص انني السبب في حرمانها من
الأمومة ؟
عندما كانت فاطمة تهدأ تماما كنت اسمع صوتها الدامع يهمس في أذني: أعذرني يا فاضل.. أنا لا أعرف ماذا أريد.
لكني كنت أعرف ماذا تريد فاطمة: أن تكون أما, غير أن الأوان قد فات.
تعالي ننس كل همومنا يافاطمة. سافرنا في رحلة حول العالم, وفي امريكا
استهوتها فكرة مكتب الخدمات وولد مشروعها الجديد باسفيك سرفيس.
لقد بدأ باسفيك سرفيس يعمل في أداء الخدمات العادية, لكن فاطمة استولي
علي اهتمامها عميل رأت فيه مجالا مناسبا لتحقيق أفكارها الجديدة, فهو
فنان تشكيلي قال: إنه صاحب مدرسة جديدة في التصوير, وأن الكل يعتبره
مجنونا, وهو لا يجد سبيلا الي عرض إنتاجه الجيد والخروج الي دائرة
الأضواء.
ـ قالت: إن اسمك أحمد برهان ؟
ـ ومتخرج في كلية الفنون منذ عامين
ـ هل تعرف الدكتور عبود ؟
ـ كان يدرس لي. إنه حمار كبير
ـ كيف تقول عن استاذ لك إنه حمار
ـ في رأيي أن كل من يعيش علي الافكار الجاهزة التي ابتكرها السابقون دون
ان يبتدع شيئا جديدا هو في نظري حمار.. هل الدكتور عبود قريبك ؟
ترددت فاطمة ثم قالت: أجل
قال: حمار
أكد الدكتور عبود لفاطمة أن أحمد برهان فنان عبقري ولكنه لا يحسن تقديم
نفسه بسبب غروره الذي يصل الي حد الوقاحة ولهذا يعتبرونه مجنونا, ولكن
كل لوحة لهذا الولد فيها دائما الجديد.
واتصلت فاطمة بأحمد برهان وحددت له موعدا ليحضر لوحاته. في تلك الليلة
قالت لي: هل تعرف يافاضل إن أروع لحظات العمر عند المرأة هي لحظة
ميلاد, عندما تنبثق منها بين آلام المخاض حياة جديدة تطل علي الوجود.
لا يكفي ان تكون المرأة جميلة بل ينبغي ان تكون نافعة ايضا.
وتنهدت فاطمة تنهيدة احترق لها قلبي وهي تستطرد: من بطن المرأة خرج
عباقرة الدنيا الذين صنعوا الحضارة, وأنا لم أنجب, لكن لو استطعت ان
اساعد هذا الفنان فكأني أعطيت الدنيا عبقريا, غير ان هذا ليس سهلا إنه
يحتاج إلي معاناة. آلام مخاض. هل تقف بجواري يافاضل ؟
احتضنت فاطمة في صمت.
عندما حضر الفنان أحمد برهان متأخرا عن موعده اكثر من ساعة كانت فاطمة
مشغولة مع إحدي العميلات, فتوليت مهمة استقباله. شاب في منتصف
العشرينيات. طويل القامة. نحيل. علي وجهه تعبير اشمئزازي فطري,
وفي نظرته الكثير من التعالي خصوصا عندما ينظر نحوي. وضع لوحاته بعناية
ثم قال: أبلغ المدام أنني هنا.
ـ المدام سوف تأتي حالا.
ـ هل أنت السكرتير أم الخادم ؟
ابتسمت وأنا أتغاضي عن رد السؤال, ويبدو أنه عرف من تلقاء نفسه إن كنت
الخادم أم السكرتير, إذ قال لي: هات لي فنجان قهوة سادة.