[size=12]ولقد كان ابن مسعود أهلا لهذه المزيّة.. فعلى الرغم من أن الخلطة الدانية على هذا النحو، من شأنها أن ترفع الكلفة، فان ابن مسعود لم يزدد بها إلا خشوعاً، واجلالاً، وأدباً..ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده، مظهره حين كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلام، نجده اذا حرّك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول... تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الاضطراب والقلق، خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف
ولنستمع لإخوانه يصفون هذه الظاهرة يقول عمرو بن ميمون : اختلفت الى عبدالله بن مسعود سنة، ما سمعه يتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله، فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته، ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول
ويقول علقمة بن قيس : كان عبدالله بن مسعود يقوم عشيّة كل خميس متحدثا، فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة.. فنظرت اليه وهو معتمد على عصا، فاذا عصاه ترتجف، وتتزعزع
ويحدثنا مسروق عن عبدالله : حدّث ابن مسعود يوما حديثا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أرعد وأرعدت ثيابه.. ثم قال:أو نحو ذا.. أو شبه ذا
الى هذا المدى العظيم بلغ اجلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ توقيره اياه، وهذه أمارة فطنته قبل أن تكون امارة تقاه
لم يكن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، ولا في حضر.. ولقد شهد المشاهد كلها جميعها.. فهاجر الهجرتين الى الحبشة و الى المدينة و صلى القبلتين وكان له يوم بدر شأن مذكور مع أبي جهل الذي حصدته سيوف المسلمين في ذلك اليوم الجليل..كما شهد أحد و الخندق و بيعة الرضوان و سائر المشاهد مع الرسول صلى الله عليه و سلم كما شهد اليرموك بعد النبي صلى الله عليه و سلم وعرف خلفاء الرسول وأصحابه له قدره.. فولاه أمير المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة. وقال لأهلها حين أرسله اليهم : اني والله الذي لا اله الا هو، قد آثرتكم به على نفسي، فخذوا منه وتعلموا ولقد أحبه أهل الكوفة حباً جماً لم يظفر بمثله أحد قبله، ولا أحد مثله
رفضه رضي الله عنه إثارة الفتن
ولقد بلغ من حب أهل الكوفة إياه أن أطاحوا به حين أراد الخليفة عثمان رضي الله عنه عزله عن الكوفة وقالوا له : أقم معنا ولا تخرج، ونحن نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه، اذ قال لهم: ان له عليّ الطاعة، وانها ستكون أمور وفتن، ولا أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها
ان هذا الموقف الجليل الورع يصلنا بموقف ابن مسعود من الخليفةعثمان.. فلقد حدث بينهما حوار وخلاف تفاقما حتى حجب عن عبدالله راتبه ومعاشه من بيت الامل، ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي الله عنه كلمة سوء واحدة بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل الى ثورة.. وحين ترامى الى مسمعه محاولات اغتيال عثمان، قال كلمته المأثورة : لئن قتلوه، لا يستخلفون بعده مثله ويقول بعض أصحاب ابن مسعود : ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط
حكمته رضي الله عنه
ولقد آتاه الله الحكمة مثلما أعطاه التقوى وكان يملك القدرة على رؤية الأعماق، والتعبير عنها في أناقة وسداد
لنستمع له مثلا وهو يلخص حياة عمر العظيمة في تركيز باهر فيقول : كان اسلامه فتحا..وكانت هجرته نصراً..وكانت امارته رحمة
ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية الزمان فيقول : ان ربكم ليس عنده ليل ولا نهار..نور السموات والأرض من نور وجهه
ويتحدث عن العمل وأهميته في رفع المستوى الأدبي لصاحبه، فيقول : اني لأمقت الرجل، اذ أراه فارغاً..ليس في شيء من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة
ومن كلماته الجامعة : خير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى، وشر العمى عمى القلب، وأعظم الخطايا الكذب، وشرّ المكاسب الربا، وشرّ المأكل مال اليتيم، ومن يعف الله عنه، ومن يغفر الله له
شهادة رسول الله صلى الله عليه و سلم بالإيمان و العمل الصالح
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآيه لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : قيل لي أنت منهم
أمنيته رضي الله عنه
ولنصغ اليه يحدثنا بكلماته عنها : قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فأتبعتها أنظر اليها، فاذا رسول الله، وأبوبكر وعمر، واذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات واذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه اليه، والرسول يقول: ادنيا اليّ أخاكما.. فدلياه اليه، فلما هيأه للحده قال: اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه.. فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة
تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في دنياه وهي لا تمت بسبب الى ما يتهافت الناس عليه من مجد وثراء، ومنصب وجاه.. ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب، عظيم النفس، وثيق اليقين.. رجل هداه الله، وربّاه الرسول، وقاده القرآن
وفاته رضي الله عنه
توفي رضي الله عنه بالمدينة سنة اثنتين و ثلاثين و دفن بالبقيعة وصلى عليه عثمان و قيل صلى عليه عمار بن ياسر و قيل الزبير بن العوام و دفنه ليلاً وقيل لم يعلم عثمان رضي الله عنه بدفنه فعاتب الزبير على ذلك و كان عمره بضعاً و ستين سنة و قيل بل توفي سنة ثلاث و ثلاثين و لما مات ابن مسعود نٌعي الى أبي الدرداء فقال : ما ترك بعده مثله
رضي الله تعالى عنه وارضاه
[/size]